Thursday, 25 November 2021

الفوائد النفسية من الحافظ أحمد بن الصديق الغماري في الاجتهاد والمجتهد

هاهنا ما أنقل بيان الحافظ أحمد بن محمد بن الصديق الغماري رحمه الله تعالى الذي وجدته نفيسا في قضية الاجتهاد والمجتهد عما نقل عنه أحد كبار تلميذه، عبد الله بن عبد القادر التليدي في كتابه در الغمام الرقيد برسائل الشيخ السيد أحمد بن الصديق وعن غيره. ولي أسباب نقلي كلامه.

الأول، هو أهل الحديث الصوفي من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأهل البيت رحمهم الله عند الصوفية العامة لهم قيمة عظيمة في شأنهم الديني ورأيهم في المسائل يحوي تأثيرا لا يوجد فيه غيره أنفس منه. جاز أن تقول أني أورد كلامه وبيانه للصوفية خاصة لأن بيني وبينه تنازع يسير في هذا الباب. وأرجو كلامه شفاء الغليل في صدورهم وتأكيد موقفي في هذه المسألة.

الثاني، اشتهر في عصره حتى اليوم بالمجتهد وقد شهد من لازمه وجالسه وتتلمذ عليه وعرفه معرفة دقيقة على بحر علمه ووسع حفظه وشدة إتقانه ورسوخ تضلعه في العلوم وبخاصة علم الحديث والفقه حتي يليق به رتبة المجتهد بدون نزاع. وهو أيضا ممن اشتد في نبذ التقليد وتشنيع التعصب على رأي من الآراء ومذهب من المذاهب وبذل جهده في الدعوة إلى التمسك بكتاب الله وسنة جده سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والالتزام بالدليل ولم يخف من خالفه وعارضه. فلهذا أحب أن أذكر الرأي عن الاجتهاد والمجتهد من المجتهد نفسه لكي يتصخ لنا حقيقتهما وينقص التباسنا في هذه القضية.

الثالث، وعلى رغم أنه من من غلاظ الصوفية ففي أصل المنهج لا يختلف اختلافا كبيرا مع السلفية. بل، من نظر إلى موقفه في باب الأسماء والصفات والجهود في نبذ التقليد، وجد بينه وبينهم قربا تطمئن به قلوب السلفية. فلذلك، على كلامه في هذه المسألة موافقة السلفية إلا في التطبيق والاختيارات في المسائل في العلوم الإسلامية والمسلك الذي خطاه كل أناس من أهل السنة وكل فرقة من فرق ناجية وهو منسجم مع أخي القارئ من السلفية.

الرابع، رأيت أناسا من العوام والعلماء ودائما حتى اليوم أراه كان عندهم سوء تفاهم في هذه القضية يتصورون هم الاجتهاد والمجتهد بخلاف ما يكون فيهما واقع وحقيقة حتى يضل ضلالا بعيدا عما تقرر في أصول الفقه وما اشترطهما الأصوليون ويبالغ في وضع رتبتهما ووصفه ويأبي أن يقبل نظرة جديدة وتنقيح تصوره ويلج في التقاليد العتيقة وجمود الظاهرية فيما كتبت فيه التآليف التي يعتمده كأنه لا يكون في هذه القضية تجديد وتعقيب وتنقيح وانتقاء. وها هذا الحافظ أحمد الغماري. كان مجتهدا ومجددا خاصة للصوفية لا ينافيهما أحد إلا أحمق وأعمى. تعال إلى النظر إلى ما قاله من هو أهله وصاحبه. هاهنا بيّن الحافظ ما هو حقيقتهما ودفع سوء التفاهم في هذه القضية من الأناس خصوصا من المقلدة التي غضب عليها غضبا شديدا. إني في الأول لم أحتج إلى ذكره والبحث ولم أرغب فيهما، لكن إذا عرم هذا الشر من غلاة المقلدة والمتعصبة انتشارا في بلدنا، بل بلاد المسلمين عامة، قد اضطررت إليهما ورأيت أن بيانه حاجة للناس. ونسأل الله منه علما نافعا ببيانه.

قال عبد الله بن عبد القادر التليدي رحمه الله في باب أكابر علماء المذاهب الأربعة والتقليد والعمل بالدليل :

وسئل رحمه الله تعالى بما صورته : إننا بعد الاقتناع بالرجوع إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخذ الأحكام، يشكل علينا حال الفقهاء السابقين رحمهم الله تعالى. فأمثال ابن أبي زيد والنووي والبيهقي وعياض وأبي بكر ابن العربي وأبي الوليد الباجي وجماعة أخرى وافرة، تعلمون عنهم الشيء الكثير وتعلمون بأنهم ممن يقتدى بهم في الدين ويوصفون بالزهد والدين المتين والاستقامة التي ما بعدها غاية ومع ذلك نجد لهم مؤلفات ليست من التمشي على مذهب أهل الحديث في قبيل ولا دبير. إننا نتشكل أن يكون أهل هداية وهم على هذه الخطة فأحد الأمرين واقع لا محالة: إما أن تكون خطتهم تلك في التفريع والقياس والاستغناء عن الدليل والتمذهب الصرف هداية، وإما الأخرى لذا نرجع إليكم في الجواب عن هذا الاستشكال بما يطمئن النفس ويهديء المضطرب ويهدي الحيران.

فأجاب رحمه الله تعالى ورضي الله عنه بما نصه: والجواب يحتاج إلى مقدمة. وهي أولا إن الرجال يعرفون بالحق وليس الحق يعرف بالرجال. وثانيا: ليس الحال في كل العلماء السابقين ولا فيمن ذكرت كما وصفت من بلوغ الاستقامة إلى الغاية التي ما بعدها غاية. بل فيهم من هو كذلك كالنووي والبيهقي وابن أبي زيد وعياض ومنهم من ليس هو هناك كالباجي وابن العربي وإن كان هذا الثاني من جهة اتباع الدليل واحترامه والوقوف معه خيرا من ملء الأرض من الباجي. وثالثا: إن هناك استشكالا أعظم من إشكالك، بل هو الإشكال الصحيح وغيره ليس بإشكال. وذلك أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ذما التقليد وحكما على المقلد بالضلال. فإما أن يكون كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم حقا والمقلد ضالا كائنا من كان، وإما أن يكون المقلد على هدى وكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم باطلا. وبالضرورة، ندري بطلان الثاني فوجب أن يكون الواقع هو الأول.

فالله تعالى يقول: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [القصص : ٥٠]. والمقلدة متبعون أهواءهم في التقليد من غير هدى من الله ولا دليل من كتابه ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فهم ضلال، بل ولا أضل منهم بنص القرآن. والله تعالى جعل اتباع الهوى ضلالا وكفرا أيضا. فقال: {وَلَا تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌۢ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ} [ص : ٢٦] ونسيان يوم الحساب كفر. والله تعالى يقول: {إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ} [الأنعام : ١٥٩]. والمقلدة فرقوا دينهم وجعلوه مالكيا وشافعيا وحنفيا وحنبليا وزيديا وإماميا وأشعريا وماتريديا وغير ذلك من المذاهب. فإما أن يكونوا على الحق وكلام الله تعالى باطلا. وإما أن يكون العكس وهو أن كلام الله حق والمقلدة ليسوا على شيء. وهو الواقع قطعا.

والله تعالى يقول: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِىٓ أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: ٦٥]. فهذا قسم من الله تعالى أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه ولا يجدوا مع تحكيمه حرجا في نفوسهم. والمقلدة لا يحكمونه أصلا لا بحرج في نفوسهم ولا بغيره. فإما أن يكونوا مؤمنين مع ذلك خلافا لحكم الله تعالى وقوله. وإما أن يكون الحكم لله وهم غير مؤمنين. والله تعالى يقول: {فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِى شَىْءٍۢ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ} [سورة النساء : ٥٩]. أي، فإن لم تردوا ما تنازعتم فيه إلى الله ورسوله فلستم بمؤمنين، والرد إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم هو الرد إلى كتاب الله والسنة بالإجماع. والمقلدة إن تنازعوا لا يردون تنازعهم والفصل فيه إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. والله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍۢ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب : ٣٩]. والله تعالى يقول: {قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْكَٰفِرِينَ} [آل عمران : ٣٢]. أي التولي عن طاعته. والله تعالى يقول: {ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوْلِيَآءَ} [الأعراف : ٣]. لا مالكا ولا غيره. والله تعالى يقول: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّ} [النساء : ٦٤]. والمقلدة يقولن: "لا نقول بتقليدهم إلا لنترك طاعته ونبذ سنته ونقدم عليها رأي غيره". ويقولون: "نتبع الأولياء الذين هم الأئمة ولا نتبع ما أنزل إلينا كما أمر الله تعالى لأن اتباعه مباشرة يوقع في الضلال" مع أن الله تعالى يكذبهم إذ يقول في محكم كتابه: {إِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ} [النور : ٥٤] ويقول تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَ} [طه : ١٢٣].

فمن يصدق المؤمن؟ وعلى قول من يعتمد؟ أعلى قول الله وخبره أن من اتبع كتابه وأطاع رسوله صلى الله عليه وسلم لا يضل ولا يشقى؟ أم على قول هؤلاء المناطيح أن العمل بالقرآن والسنة ضلال وينقلون عن أئمتهم كذبا وزورا أنهم قالوا: "الحديث مضلة إلا للفقهاء، بل يزيد خليل اللقاني....". فيقول -عناد لله ورسوله صلى الله عليه وسلم تقديما للضلال على الهدى- : "نحن خليلون. إن ضل ضللنا وإن اهتدى اهتدينا". ومن اختار الضلال فهو ضال في الحال سواء كان خليل ضالا أو مهتديا. ولو تتبعنا القرآن الكريم لذكرنا ثلاثة أرباعه تقريبا في الموضع. وقد أشبعنا القول في ذلك في كتابنا الإقليد بتنزيل كتاب الله على أهل التقليد.

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد تركتم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها سواء لا يزيغ عنها إلا هالك". والمقلدة يقولون بملء أفواههم: "كلا! لقد تركنا في ليل بهيم وظلمة حالكة ولا يتبعها إلا ضال فيجب تركها والعمل برأي الفقهاء". فمن الصادق في خبره ومع من الحق في حكمه؟ أمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق والمصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى أو مع هؤلاء الجهله؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواحذ. وإياكم ومحدثات الأمور. فإن كل محدثة بدعة. وكل بدعة ضلاله". والتقليد بدعة بإجماع الفقهاء، فضلا عن العلماء إذ ما حدث إلا في القرن الثالث ولم يكن عليه الصحابة والتابعون والسلف الصالح. فإم أن يكون خبر الرسول صلى الله عليه وسلم حقا والتقليد ضلالا وأهله مبتدعة ضالين وإما أن يكون العكس وهو محال. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك". والطائفة تشمل الواحد والاثنين كما ذكره أهل اللغة. فلم يقل صلى الله عليه وسلم: "لا تزال أمتي" كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"، بل أخبر أن أمته ستنقلب على عقبها وتغيردينه وسنته وأن منتهى ظهورها والتمسك بدينها إلى سنة مائة خمسين، وهو وقت ظهور فقه أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن بعد وفاته قام أصحابه بشر مذهبه وتمكن أبو يوسف رحمه الله تعالى من الدولة والرياسة مع الرشيد. فكان لا يولي القضاء إلا من يلتزم الحكم برأي إمامه.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"، بل لا بد أن تبقي فيها الطائفة الظاهرة على الحق؛ والله تعالى يقول: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} [ص : ٢٤]. ويقول: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ : ٣٦]. فهذا إخبار من الله تعالى بأن الصالح في الناس قليل. فمن ظن خلاف هذا فهو كافر مكذب لله تعالى. وهذا القليل هو الطائفة العاملة بالدليل، الظاهرة على الحق التلي لا يضرها من خالفها ولا من خذلها. والكثير هم المقلدة الجاهلون بأمر الله ودينه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بدأ الدين غريبا وسيعود كما بدأ. فطوبى للغرباء الذين يحبون من سنتي ما أفسد الناس". وكيف يكون الدين غريبا وقد عم مشارق الأرض ومغاربها والمسلمون أكثر من خمسمائة مليونا؟ ولكن غثاء كغثاء السيل، مساجدهم عامرة وليس فيها مسلم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما الغريب بينهم من نبذ التقليد وعمل بالدليل واتبع ما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبالجملة فالمقال في هذا طويل.

فصل: إذا عرفت هذا فالجواب عن الإشكال الذي أوردته إجمالي وتفصلي. أما الإجمالي فهو أن المقلدة على ثلاثة أقسام: عوام وعلماء بحسب العرف وإن كانو جهلة في الحقيقة وأئمة علماء. فالعوام لا يوصفون بالتقليد ولا اجتهاد لأن العامي لا مذهب له وإنما مذهبه قبول قول من يفتيه. والقسم الثاني العلماء على الحقيقة وهم المجتهدون الاجتهاد المذهبي. وهؤلاء هم الذي يطلق عليهم مقلدة مالكية أو شافعية أو حنفية على الحقيقة لأنهم ينظروا في أصول الأئمة التي بنوا عليها مذاهبهم فاختار كل واحد منهم مذهب إمام بعينه لأنه رأى بحسب نظره واجتهاده أن هذه الأصول هو الحق الذي يجب التمسك به. فالمالكي نظر قواعد مذهب مالك وفي قواعد غيره وأصولهم التي بنوا عليها مذاهبهم، فرأى أن أصول مالك أرجح من أصول غيره فتمسك بها لاعتقاده أنها الحق وغيرها بضد ذلك. فهو مجتهد في اختيار المذهب. وهل هو مصيب أو مخطي؟ في الواقع، هذا ليس إليه، بل هوو خارج عن مقدوره. إنما هو قد عمل الذي عليه واجتهد. فإن أصاب فله أجران. وإن أخطأ فله أجر. فلو قلت لواحد منهم: "لم اخترت مذهب مالك على مذهب الشافعي؟" أو العكس مثلا. لقال لك: "إن المذهب الذي اخترته مبني على كذا وكذا وهو الحق والدليل على كونه هو الحق كذا وكذا وهكذ إلى آخر أصول المذهب". ثم يتعرض لأصول المذاهب الأخرى فينقضها أصلا أصلا بالدلائل الظاهرة له. فهو مقلد مجتهد في آن واحد. ثم منهم يستعمل هذا القدر في أول الأمر حتى يحصل له الاعتقاد الراجح بأن مذهب إمامه هو الحق ويترك بعد ذلك النظر في أدلة فروعه لأنه قد اعتقد أن المذهب كله حق وغالب هؤلاء فقهاء ليس لهم معرفة بالحديث. فلذلك اعتمدوا على النظر في أصل المذهب وتركوا النظر في أدلة فروعه. ولكنهم إذا وجدوا دليلا مخالفا لقول إمامهم أو وجدوه قد ضعف مدركه ورأيه في مسألة خالفوه فيها وقالوا قولا نسب إليهم في المذهب أو رجحوا قولا لمن سبقهم نسب إليهم ترجيحه. فهؤلاء وإن كان مقدلة، فهم على هدى وحق. ومن هؤلاء عياض والنووي وابن العربي والأئمة المقلدون غالبا، لا كُلًّا. وهم أهل القرن الثالث إلى السابع ما عدا أهل الجمود منهم.

ومنهم من يكون من أهل الحديث فيعرض جميع فروع مذهبه على الدليل. فما وافقه، أخذ به وما خالفه، تركه وعمل بالدليل. وهو مع ذلك متمسك بالانتساب إلى المذهب لاعتقاده أن إمامه لو علم بهذا الدليل لقال به كما نص عليه الأئمة الأربة يقول كل منهم: "إذا صح الحديث فهو مذهبي". ومن هؤلاء النووي وابن العربي أيضا. فهؤلاء أئمة هداة وعلماء مجتهدون طائعون لله ورسوله صلى الله عليه وسلم تابعون للدليل، لا لمجرد رأي الإمام. ولذلك وجدت لهم أقوال كثيرة مخالفة لأقوال أئمتهم إلا أنهم وإن كانوا هداة وعلى حق، فهم في نفس الوقت غير الجادة لأنهم على غير طريق الصحابة والتابعين والسلف الصالح الذين منهم أئمتهم رحمهم الله تعالى ورضي الله عنهم. فإن مالكا مثلا ما كان يقلد الزهري ولا نافعا ولا ربيعة ولا الحسن البصري ولا سعيد بن المسيب ولا غيرهم من شيوخه وشيوخ شيوخه، بل ولا كان يقلد الصحابة حتى الخلفاء والراشدين الوارد فيه الحديث وفروعه المخالفة لهم لا تكاد تنحصر. وإنما كان يأخذ بالدليل وربما ظهر له أنه الحق. وهو الواجب على كل مسلم. وكذلك الشافعي ما كان يقلد شيخه مالكا ولا ابن عيينة ولا غيرهما، بل لما بلغه أن أهل الأندلس أخذوا قلنسوة مالك يستشفعون بها قال: "أو بلغ أمر مالك إلى هذا الحد؟". ثم شرع في نقض مذهبه والرد عليه فيما خالف فيه الدليل وضعف فيه مدركه. ومن هنا كان له مذهبان القديم والجديد. فهذه هي طريقة الصحابة والتابعين والسلف الصالح خير القرون.

فإن قلت: ولم تركوا طريقة السلف وخالفوهم بالتزام التقليد. فالجواب: إن الحامل لهم على ذلك أمران. أحدهما أنهم لم يكن لجميعهم معرفة الحديث ولا قدرة على الاستدلال لكل جزئية. وإنما كان لهم كبير فكر وقوة نظر أدركوا بها حقيقة مذهب إمامهم فاعتمدوا على ذلك. ويدلك على هذا أن كبار الأئمة المقلدين نصوا في كتبهم في الفروع والأصول على حرمة التقليد وذموه غاية الذم مع أنهم منسوبون إلى مذهب من المذاهب لأنهم يعتبرون أنفسهم غير مقلدة وأنهم مجتهدون وافق اجتهادهم اجتهاد إمامهم كما قال القاضي عبد الوهاب وعياض والقرافي وغيرهم. ثانيهما الدنيا. فإن الله تعالى جعل المخلوق مبتلى في هذه الدار يأمر المعاش وجعل أهل العلم ضعفاء عاجزين عن اكتساب قوتهم من الأسباب المتعارفة، بل ولا يمكنهم تحرير المسائل والتوسع في الاطلاع مع الاشتغال بالتكسب كما قال الشافعي رضي الله عنه: "لو كلفت شراء بصلة، ما فهمت مسألة". وإن كان أهل الحديث في الصدر الأول يفنون أعمارهم في طلب الحديث وجمعه من عند الشيوخ حتى كان الواحد منهم يبقي في الرحلة أربعين سنة، فلم يكن عندهم الوقت ليشركوا غيره من الفنون التي لم يكن دُوِّنَ منها شيء، بل كانت تدرك أيضا بالرحلة إلى الشيوخ وتقييدها عنهم. فكان النحوي واللغوي لا يستطيع أن يضم الى فنونه غيرها. وكذلك الفقيه لا يستطيع أن يكون محدثا لغويا نحويا ولا يحرز من ذلك إلا القدر الواجب الذي لا بد منه.

وكانت الملوك في حاجة إلى الفقهاء لا إلى غيرهم لأن علم الفقهاء هو الذي ينفعهم في فصل القضاء والحكم بين الناس وإقامة أمور الدولة السياسة على ميزان الشرية فقربوا الفقهاء وولوهم القضاء والفتيا ورفعوا مناصبهم وأجلوا أقدارهم وأغدقوا عليهم النعم لشدة انتفاعهم بهم فصار الفقه هو الموصل إلى الدنيا ورياستها وعظم الجاه فيها بين الملوك والعامة. وكان قد اشتهر مذهب أبي حنيفة بالعراق وخرسان وما وراء النهر. واشتهر مذهب الشافعي بالحجاز واليمن والمصر حتى قال أشهب: "اللهم أمت الشافعي وإلا ذهب علم مالك بن أنس". واشتهر مذهب مالك بمصر أيضا والمغرب والأندلس. وألزم أهل كل قطر القضاء والفتوى على مذهب الإمام الشائع مذهبه فيه تقريبا للراحة لأن نصوصهم موجودة مدونة فتوطدت المذاهب بذلك ورسخ قدم التقليد وصار العالم المتطلع الى الدنيا والتوسع فيها لا يمكنه الوصول إليه إلا من طريق التقليد. ولهذا كان العالم يصل إلى درجة الاجتهاد ولا يستطيع أن يفارق مذهب بلده لأنه لو فعل، لنبذ وطرد من أبواب الملوك وحرم من سائر الوظائف. وقد سئل الحافظ ولي الدين أبو زرعة العراقي فقيل له: "لم بقي التقى السبكي شافعيًا مع أنه حاز من علوم الاجتهاد ما لم يحزه إمامه الشافعي؟". فقال: "كان التقي قاضي القضاة وابنه تاج الدين قاضيًا بالشام وبيده مع ذلك وظائف جلها موقوف على الشافعية. فلو ادعى الاجتهاد لسلب منه جميع ذلك". فهذا هو السبب في عدم إعلانهم باجتهادهم المطلق ونبذهم للمذاهب. وانظر الحافظ السيوطى لما ادعى الاجتهاد. كيف نبذه أهل عصره وحاربوه وبقي منعزلا في بيته. وهكذا شأن كل من ادعى الاجتهاد.

والقسم الثالت من المقلدة هم الجهلة المعروفون في عرف الناس بالفقهاء والعلماء كأهل عصرنا ومن قبلهم إلى القرن الثامن. فهم المقلدة الضالون المضلون. فلو قلت لواحد منهم لم صرت شافعيا ولم تكن مالكيا أو حنفيا وبالعكس، فإن الترجيح دون مرجح باطل، فقال: {إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٍۢ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف : ٢٣]. وقد أفتينا مرة في مسألة واستدللنا لها بالحديث. فأخذ السائل تلك الفتوى إلى الفرطاخ، وكان من علماء تطوان. فلما قرأها غضب واحتد وقطعها. ثم رمى بها وقال للرجل: "إذا جئتني مرة أخرى بفتوى فيها حديث، بعثتك إلى السجن". وناظرت مرة رجلا من تطوان، فصار يصيح ويقول: "يا عباد الله! أيأمرنا هذا الرجل بالكفر؟ أيأمرنا أن نترك خليلا ونعمل بالحديث؟". فهذا الصنف هو الذي تنطبق عليه الآيات والأحاديث وأقوال الأئمة. وهم الذين اتخذوا أحبارهم ورهبابهم أربابا من دون الله. وفيهم ألفنا كتابنا الإقليد ونزلنا جميع الآيات القرآينة عليهم. وأما الأئمة الذين أوردت الإشكال بهم فخارجون عن هذا، وهم الحاكمون على أمثال هؤلاء بالضلال.

فصل: وأما التفصيل فهو بالنسبة لخصوص الأشخاص الذين ذكرتهم. فالبيهقي ليس من هذا القبيل. فهو حافظ عامل بالدليل وهو ناصر مذهب الشافعي الذي ذكر لكل فرع من فروعه دليلا من الحديث والأثر حتى قيل: "للشافعي منة في رقبة كل عالم وللبيهقي منة عليه". وقد ألف البيهقي رسالة بعث بها إلى أبي محمد الجويني، والد إمام الحرمين يرشده إلى العمل بالحديث الصحيه ويلومه على الاستدلال بالحديث الضعيف إذ رأى ذلك منه في كتابه في الفقه. فكيف يذكر في صنف المقلدة؟ وابن أبي زيد كان فقيها لا يعرف بالحديث. ولكنه مع ذلك من أئمة السلف العاملين بالدليل على مبلغ علمهم وحسب طاقتهم ووسعهم ولم يكن كهولاء الحربي المعاندين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذين يقف أحدهم على ضعف مدرك إمامه، فيقول: "أنا خليلي إن ضل ضللت وإن اهتدى اهتديت". بل معاذ الله من ذلك. وفي نوادره ومصنفاته الأخرى الكثيرة من تضعيف أقوال من سبقه وترجيح الراجح في نظره حسب موافقة الدليل. وكذلك عياض والنووي ابن العربي كسابقيهم.

وعقب هذا الجواب جاءت رسالة أخرى يقول فيها : وساعة وصلني منكم كتاب بوصول الجواب إليكم ففرحت كثيرا لأني أعلم أن تلك الشبهة التي أجبت عنها هي الشبهة التي تقف سدا بين جميع الناس وبين العمل بالدليل. فأجبت أن تعرفها حتى لا يبقى عندكم ما يمنعكم من نبذ التقليد والعمل بما يجب عليكم العمل به من الدليل. وأرجوا أن تكونوا قد اقتنعتم بذلل إن شاء الله تعالى وأعيذكم بالله أن تبقوا في حيرة من أمركم وغلظ دينكم وجرأة على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما هي حالة المقلدة نعوذ بالله. وقد استفتاني رجل فأتيته بالحق المؤيد بالدليل لأن نفسنا وديننا لا يطاوعنا على الفتوى بقول فلان ورأي فلان. فلما دفعها الرجل للفرطاخ، غضب واحتد، وأخذته حمية الجاهلية وقطع الورقة ورمى بها. وقال للرجل: "إن عدت تأتي بفتوى فيها حديث، أدخلتك السجن". كأن حديث رسول الله صلى الله عليه كلام فرعون وقارون أو بقراط وأرسطو، لا كلام الله المنزل: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} [النجم : ٣=٤]. وجادلت مرة محمد بن عبد الصمد أمحيح -معروف عندهم بالتجكاني- في مسألة، فصار بعد أن ألزمناه الحجة، يصيح ويقول: "ما هذا يا عباد الله! أتأمرنا بالكفر؟ أتأمركم بترك خليل والعمل بالحديث؟". وبلغني عن الدرب ولا أعرف من هو الدرب أو الدردابي أنه قال يوما في درسه: "إن هذه الأحاديث التي يدعو إليها فلان كلها خرجت من مناخير مالك في أشباه هذا" من الازدراء بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم". ولما مات الفرطاخ، رأيته ذات ليلة في حالة سيئة. قد خرج في قبره وأتي إلي يستعطفني ويقبل لحيتي وصدري وإن لم يكلمني إلا أني فهمت أن استعطافني لأسامحه فيما كان يعارضنا به حتى أنه جاء مرة إلى حومتنا ليقابل الشريف الكتاني -وكان نازلا عنده- فوقف بباب الحومة وأرسل يطلب الكتاني. فلما نزل إليه دعاه بقدم معه إلى المنزل، فقال له: "لا أذهب إلى منزل من يعمل بالحديث ويطعن في التقليد". ثم إنه بعد أن قبل لحيتي، رجع إلى قبره فتبعته فسمعت في قبره جلبة عظيمة وصياحا منكرا وهو يعذب وبجنبه قبر اسم صاحبه أبو عبيدة فصرت أنادي صاحب ذلك القبر لأسأله: "فيم يعذب الفرطاخ؟". ومن صياحي استيقظت وأنا أصيح. وذلك قبل الفجر. والمقصود أن الأمر ليس بهين. فأرجو الله تعالى أن ينفعكم بدينكم ويوفقكم لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والإعراض عما سواها كائنا من كان. انتهى كلامه.

أحب أن ألحق به التعقيب على هذا. فالأول أخطأ الحافظ الغماري في حكايته عن الحافظ أبي زرعة العراقي في سؤاله عن حال التقي والسبكي. والصواب ليس بذاك. وهو ما قاله في كتابه الغيث الهامع شرح جمع الجوامع : وقُلْتُ مَرَّةً لِشَيْخِنَا الإِمَامُ البَلْقِينِيُّ رَحِمُهُ اللَّهُ تعَالَى: مَا يَقْصُرُ بِالشَّيْخِ تَقِيِّ الدّينِ السُّبْكِيِّ عَنِ الاجْتِهَاد وَقَدْ اسْتَكْمَلَ آلاَتِهِ؟ وكَيْفَ يُقَلِّدُ؟ ولَمْ أَذْكُرَهُ هو استحيَاءً مِنْهُ لِمَا أُرِيدُ أَنْ أُرَتِّبَ علَى ذَلِكَ، فَسَكَتَ عَنْهُ. فَقُلْتُ: مَا عندي أَنَّ الامتنَاعَ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ لِلوظَائفِ التي قَرَّرَتْ لِلفقهَاءِ علَى المَذَاهِبِ الأَربعةِ، وأَنَّ مَنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ وَاجْتَهَدَ لَمْ يَنَلْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وحُرِمَ وِلاَيةُ القضَاءِ، وَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ استفتَائِه ونُسِبَ لِلبِدْعَةِ. فَتَبَسَّمَ ووَافَقَنِي علَى ذلكَ. انتهى.

والثاني، في القسم الثالث من المقلدة، قد أورد الشيخ محمود سعيد ممدوح في كتابه مسامرة الصديق ببعض أحوال أحمد بن الصديق كلام الحافظ أحمد الذي لم يذكره في إيراد التليدي هذا. قال: والقسم الثالث من المقلدة وهم ءفي نظر المرتجم لهء العلماء الجامدون على المذاهب تقليدا لا تنقيدا واتباعا ويزيدون على ذلك عداوتهم لمن يعلن طلب الدليل والبحث عنه والدعوة لاتباعه كما جاء عن يوسف النبهاني أنه يتقذر من رؤية الداعين إلى العمل بالدليل كما يقذر من رؤية النجاسة! وكما قال جعفر الكتاني في الرد على عبد الله السنوسي: "وبعد، فقد نبغت نابغة من المجوس رأسهم ابن حزم يقولون: "لا يجوز العمل إلا بكتاب الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم"! فسماهم مجوسا وجعل علة تمجسهم قولهم: "لا يجوز العمل إلا بكتاب الله والحديث"! ثم قال في آخر كتابه الخرافي: "الفصل العاشر في تحريم العمل بكتاب الله وحديث رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم... إلى آخر"! هكذا يصرح بتحريم بكل جرأة ووقاحة! وسمى الخضر الشنقيطي كتابه في نصرة التقليد: "قمع أهل الزيغ والإلحاد عن الطعن في أئمة الاجتهاد". فسماهم ملاحدة وجعل قولهم: "لا يجوز تقليد الأئمة" طعنا فيهم! وقال القادري في رسالته في العمل بالضعيف من أقوال المذهب: "فإن قلت هل يجوز العمل بالحديث؟ فالجواب: لا"!. ولو أملينا عليك ما سمعناه منهم ووقع لنا معهم، لسمعت العجب العجاب. انتهى.

قال عبد الله بن عبد القادر التليدي رحمه الله في باب العمل بالدليل لا يسمى تقليدا : وسئل رحمه الله تعالى عما يقوله بعضهم من أن العامل بالحديث يعتبر هو الآخر مقلدا لأهل الحديث. فأجاب: والذي زعم أننا مقلدون لأهل الحديث جاهل كاذب. ولو كان ذلك ينافي الاجتهاد لكان مالكا مقلدا لأنه يأخذ بأقوال المحدثين قبله كالزهري ونافع وأبي بكر بن محمد بن حزم وأمثالهم ولكان الشافعي مقلدا لأنه يأخذ بأقوال مالك وابن عيينة وأمثالهم وهكذا أبو حنيفة مع عطاء وإبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان وغيرهم. والجاهل لا يفهم ما يقول ولا يعرف معنى ما ينطق به. فدع الجهلة، فجوابهم الإعراض عنهم. انتهى.

قال عبد الله بن عبد القادر التليدي رحمه الله في باب العمل الدليل والاجتهاد :

والعمل بالحديث لا يسمى اجتهادا بإجماع العلماء، بل والعقلاء معهم. فإن الاجتهاد هو بذل الجهد واستفراغ الوسع والطاقة وإعمال النظر والفكر في استخراج حكم مجهول من أدلة معلومة. كما إذا وقعت حادثة ولم يوجد فيها آية ولا حديث نصا، فإن المجتهد يفكر بعمله ونظره فيها ثم يلحقها بأصل آخر على حسب ما أداه إليه نظره فيكون رأيه وقوله مخالفا لقول المجتهد الآخر ورأيه. أما العمل بالحديث فلا اجتهاد فيه أصلا. وإنما هو طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ولو كان العمل بالحديث يسمى اجتهادا، لكان كل مسلم في الدنيا مجتهدا، ولا سيما الخطباء وأمثالهم الذين يذكرون المحرمات والمناهي ويستدلون عليها بالآيات والأحاديث ويذكرون الواجبات والمندوبات من فضائل الأعمال والأخلاق ويستدلون عليها بالحديث أيضا.

فكما يقول الخطيب مستدلا على تحريم الكذب والخمر مثلا، قال رسول صلى الله عليه وسلم: "الكذب مجانب للإيمان". وقال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِى ٱلْكَذِبَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ} [النحل ١٠٥]. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن". كذلك مثله لو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". وقال صلى الله عليه وسلم: "الصائم المتطوع أمير نفسه. إن شاء صام وإن شاء أفطر". وقال صلى الله عليه وسلم: "من أكل أو شرب ناسيا وهو صائم فلا قضاء عليه. فإنما أطعمه الله وسقاه". وقال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث يحبها الله؛ تعجيل الفطور وتأخير السحور ووضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة". فكما يقول الخطيب والواعظ: قال عليه الصلاة والسلام: "من صلى قبل الظهر أربعا وبعدها أربعا، حرمه الله على النار". كذلك يقول: قال عليه الصلاة والسلام: "من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال، كان كصيام الدهر". مع أنهم يقبلون من الخطيب والواعظ حديث صلاة قبل الظهر وبعده، ولا يسمونه اجتهادا ولا يقبلون منه صيام ستة من شوال لأن إمامهم قال إنه مكروه حيث لم يبلغه الحديث. والحديثان كلاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وكلاهما ترغيب في العمل، لكنهم جعلوا العمل ببعضها اجتهادا واعوا كذبا وزورا أن الاجتهاد انقطع وجعلوا بعضها عملا لا اجتهادا.

أما شروط الاجتهاد فهي معرفة الدليل قليل من العربية والأصول وأقوال السلف الصالح مع الذكاء وفقاهة النفس. ومن كان عنده سنن أبي داود والبيهقي ونيل الأوطار للشوكاني والمحلى لابن حزم والمغني لابن قدامة وشرح المهذب للنووي، فإنه تكفيه في الاجتهاد. فإذا ضم إلى ذلك المدونة وشرح الحطاب على المختصر وشرح الهداية في الفقه الحنفي والبحر الزخار والروض النضير، فقد بلغ المطلوب. انتهى.

قال عبد الله بن عبد القادر التليدي رحمه الله في باب الرد على المقلدة القائلين بأن أئمتهم أحاطوا بالسنة :

وسئل رحمه الله تعالى عن قول غلاة المقلدة بأن الإمام لا يمكن أن يخفى عليه نص من نصوص الشريعة لأنه مجتهد. ومن شرط المجتهد أن يحيط بعلمه بكل شيء. ولذلك نرى أن الاجتهاد بعد الأئمة الأربعة انقطع لأنه لا يوجد من أحاط علمه بكل شيء.

فقال رحمه الله تعالى إجابة عن هذا الهراء: إن أحفظ الأمة أحمد بن حنبل رضي الله عنه بلا نزاع بين أهل العلم. فقد قيل: إنه كان يحفظ ألف ألف حديث ومع ذلك فقد خفي عليه أحاديث كثيرة ما رواها ولا سمع بها. وقد رواها أصحابه ومقلدته. بل رواها ابنه عبد الله في زوائد على كتب أبيه، وتلميذه أبو داود في سننه. فكيف بمالك الذي لم يبلغ حديثه عشر حديث أحمد جزما مقطوعا به. فإن أكثر ما نقل عن مالك أنه كان يحفظ أربعين ألف حديث. فهو أقل من عشر ما كان يحفظه أحمد، بل أقل من نصف عشرة، إذ نصف عشر ألف ألف خمسون ألفا. وسبب ذلك أن أحمد رحل في طلب الحديت وطاف الأقطار ودخل مدن العراق والحجاز والشام واليمن وغيرها وأكثر الشيوخ والمتون والطرق والموقوفات والمقطوعات. ومالك لم يرحل من المدينة إلا إلى مكة. ولم يكن عنده أحاديث أهل الحجاز على عدم إكثاره من شيوخ الحجاز أيضا لأنه كان ينتقي الشيوخ ويختار من يروي عنه. وكان الحديث في وقته غير مدون ولا مجموع في مصنفات. إنما كان مفرقا عند الرجال. فكان أكثر الناس شيوخا وأبعدهم رحلة أكثرهم حديثا. ودع عنك هذا فقد يكون كل ما نقل عن مالك وأحمد مبالغا فيه. وإن كانت رحلة أحمد وكثرة شيوخه، وعدم رحلة مالك وقلة شيوخه أمرا مقطوعا به كانقطاع بوجودهما. ولكن هذا مسند أحمد بين أظهرنا فيه نحو أربعين ألف حديث من المرفوع خاصة. وموطأ مالك بين أيدينا أيضا فيه ستمائة حديث ونيف وعشرون حديثا مرفوعا. وإن استغربت في هذا، فمسند أحمد في ستة مجلدات ضخام. كل مجلد منها قدر الموطأ ثمان مرات.

وقد جمع الدارقطني والخطيب وابن عساكر بقية أحاديث مالك الغريبة التي أكثرها كذب موضوع على مالك، ما سمعه ولا رواه ولا حدث به. وجمع غيرهم مسند حديث مالك الصحيح مما ليس في الموطأ فلم يبلغ هو الموطأ وباقي الغرائب مجلدا واحدا من مجلدات أحمد الستة وقد كان عبد الله بن وهب، تلميذ مالك أحفظ منه بكثير وحديثه أكثر من حديث مالك بمرات عديدة. وقد كان مالك يذكر له الحكم في المسألة فيقول له ابن وهب قد ورد في هذا حديث بخلاف ما ذكرته. ثم يحدثه به فرجع مالك إليه في الحال. من ذلك، قول المصلي في الركوع: "سبحان ربي العظيم" ثلاثا وفي السجود "سبحان ربي الأعلى" ثلاثا. فإن مالكا أنكر ذلك حتى حدثه ابن وهب بالحديث الوارد فيه فيرجع إلى مالك. ومن ذلك وقائع أخرى ضلت عنا الآن. وليس معنا مرجع نرجع إليه لوجودنا في الاعتقال. وأقرب طريق توقفك على الكثير من هذا قراءة مدونة سحنون. فإنه ينقل عن ابن القاسم عن مالك أقوالا ثم يعقبها بأحاديث مخالفة لذلك يرويها عن ابن وهب غالبا. وغرضه بذلك التنبيه على أنها خفيت على مالك. وذلك ممد يدل على كذب ما نقلوه عنه من أنه قال: "لولا مالك لضللنا". بل أعجب من هذا كله أن مالكا رحمه الله تعالى أنكر وجود أويس القرني الذي هو أشهر من وجود الحجاج بن يوسف الثقفي. وليس العجب من مجرن إنكاره وجد رجل لم يسمع به ولا فيه مسيس مما نحن فيه. وإنما العجب من كون أويس ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحيحة مشهورة مخرج بعضها في صحيح مسلم. فإذا خفيت عليه أحاديث متضمنة لذكر رجل يكاد يعرفه عوام الناس معرفة ضرورية، فما بالك بغيرها! فكيف يدعى جهلة المقلدة مع هذا أن لا نخفي عليه خافية.

ثم إن الإمام الشافعي رضي الله عنه أقل حديثا من مالك وإن كان أفقه وأعلم منه بكثير. وأبو حنيفة أقول الجميع وأبعدهم عن معرفة السنة. ولولا حماد وإبراهم وعلقمة، لما ذهب في هذا الباب ولا جاء. وإنما هو الرأي والقياس. فاعجب بعد هذا لظنهم الفاسد في أئمتهم. وأيضا فإنا نجد مالكا يرد على أبي حنيفة وبخطئه. ووجدنا محمد بن الحسن، صاحب أبي حنيفة وهو أيضا إمام مجتهد يرد على مالك وبخطئه. ووجدنا الشافعي يرد عليهم وبخطئهم. ويذكر لهم من الأدلة ما لم يبلغهم أو لم يفهموه من القرآن. فكيف خفي عليهم ما عرفه مجتهد مثلهم. كما أنا وجدنا من أصحابه وأصحاب أبي حنيفة من يرد عليه وبخطئه ويذكر له ما لم يبلغه من الحديث والسنة. ومن شك، فليقرأ كتب الإمام الشافعي وكت أصحاب أبي حنيفة وأصحاب مالك وأصحاب الشافعي من الأئمة الكبار أهل القر الثالث والرابع حتى يتحقق بجهله وفساد اعتقاده وظنه. انتهى.

قال عبد الله بن عبد القادر التليدي رحمه الله في باب مع المقلدة والاجتهاد :

وسئل رحمه الله تعالى عما يقوله بعض المقلدة مع أن العمل بالقرآن والسنة يحتاج إلى علم واسع وفهم ثاقب وتضلع من علوم التفسير والحديث ومعرفة الناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد والعام والخاص ومعرفة أسباب النزول ومعاني القرآن وبعض القراءات ومعرفة تفاسير الصحابة ومعرفة الصحيح والحسن والضعيف والموضوع والمرفوع والموقوف والمقطوع والشاذ والمعلل والمنكر ومعرفة الجرح والتعديل والثقات والضعفاء والصحابة والتابعين والوفيات والأوطان والمنفردات والوحدان والسابق واللاحق ومعرفة مذهب الصحابة والتابعين والمجمع عليه والمختلف فيه ومعرفة علم الأصول والنحو واللغة. وأغلب العلماء جهال بهذا وأبعدهم عن سماعه، فضلا عن معرفته وإتقانه ولذلك جاز لهم التقليد وكانوا بذلك معذورين فلم يؤمروا بالعمل بالدليل.

فأجاب عن ذلك بقوله: ما ذكروه تمويه وتهويل وتهويش وتضليل، لا صحة لشيء منه ولا حقيقة له كما يتضح من وجوه. الوجه الأول أن الاجتهاد لا يحتاج إلى هذا كله ولا إلى ربعه، بل لا يشترط في المجتهد أن يكون حافظا للقرآن، فضلا عن سواه. وإنما يشترط فيه أن يحفظ آيات الأحكام فقط كما أنه لا يشترط فيه الإحاطة بالسنة، بل ولا حفظ شيء منها. وإنما يشترط أن يكون عند كتاب جامع لأحاديث الأحكام. قد مثل علماء الأصول له بسنن أبي داود، وبعضهم زاد معه سنن البيهقي، وبعضهم قال إن المنتقى لعبد السلام بن تيمية الذي شرحه الشوكاني بنيل الأوطار يكفي وإن كان الحق عندنا غير ذلك كما سنذكر. وكذلك لا يشترط فيه التضلع من علم النحو، بل يكفي منه ما يفهم به اللسان ويفهم به القرآن والحديث كما هو مقرر في كتب الأصول. فسقط كل ما يهولون به في المسألة ويموهون به في هذا الباب يؤيد الذي قاله علماء الأصول ويحققه.

الوجه الثاني وهو أن الأئمة المجتهدين المجمع على اجتهادهم لم يكون بهذه الصفة ولا كانوا يعرفون كل هذه العلوم، بل منهم من كان لا يعرف العربية كأبي حنيفة معرفة أبنائها العرب. بل كان يلحن فضلا عن أن يكون عارفا بالنحو الذي كان وقتئذ لم ينضج ولم يشتهر. بل كان لا يزال في طور نشأته الأولى وعهد تنميته. وكذلك مالك وإن كان عربي اللسان. أما الأصول، فما سمع بها أبو حنيفة ولا مالك. وأول من وضعه الإمام الشافعي رضي الله عنه. وكذلك الحديث، لم يكونوا محيطين به، بل كان أفقههم وأكثرهم فروعا أقلهم حديثا كأبي حنيفة والشافعي. وأكثرهم حديثا وأحفظهم له أقلهم فقها وفروعا كأحمد بن حنبل وابن جرجر والثوري وابن راهوية كما بينته في غير هذا الموضع. ولو كان الاجتهاد يستلزم كثرة الحديث، لكان الحال بالعكس في هؤلاء، بل لكان أبو حنيفة بعيدا عن وصف الاجتهاد مع أنه أمكن المجتهدين فيه وأغوضهم على معانيه. كذالك علم الاصطلاح، لم يكن ظهر ولا دون ولا اشتهر، وكثير من فنونه وعلومه إنما ظهر بعد الأئمة المجتهدين.

الوجه الثالث: ولو سلمنا احتياج الاجتهاد إلى كل ذلك، فإنه مسير سهل على كل من طلبه وأراد التوسع فيه فإن مواده بعد الأئمة أكثر منها بآلاف الأقسام في عصرهم علوما وكتبا وشرحا وإيضاحا بحيث لم يبق فن من تلك الفنون التي اشترطموها في الاجتهاد جهلا وتعنتا إلا وقد وجدت فيه المئات من المؤلفات، بل الآلاف المؤلفة كعلم الحديت والتفسير مما لم يكن شيء منه في عهد الأئمة إلا القدر القليل والنزر اليسير في بعضه دون باقية. فلدينا اليوم كتب التفسير والقراء ات وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ ولغة القرآن والمصاحف واختلافها وشواذ القراء ات وأحكام القرآن وكل ما يتعلق به أصلا وفرعا كما لدينا الصحاح والسنن والمصنفات والمسانيد والأجزاء والفوائد والمشيخات وكتب الجرح والتعديل والتڨات والضعفاء والمدلسين والمخضرمين والمختلطين والوفيات والموضوعات والمنفردات والحدان والصحابة والتابعين والفقهاء والمجتهدين والحفاظ والمحدثين، والرواة وكتب المصطلح وعلومه مما هو فوق الكفاية وأكثر مما ذكرتم بعشرات الأقسام. كما لدينا كتب أحكام الحديث وشرحه وكتب الخلاف العالي وكتب فقه الأئمة كالأربعة والزيدية والإمامية والظاهرية والإباضية وغيرهم. ولدينا كتب اللغة والنحو والأصول على سائر المذاهب ما هو كفيل بالإحاطة بجميع المسائل والفروع والأقوال والمذاهب فيه.

فإن قيل سلمنا هذا وكن ما ذكرته هو ما نعي العجز عن معرفته في وقتنا هذا. فالجواب عنه هو الوجه الرابع. وهو أن معرفة هذا ممكن في أقل من الوقت الذي تعرفون فيه تلك العلوم التي تفنون فيها في تحقيقها والإحاطة بها جانبا كبيرا من أعماركم إبان الطلب وبعده. بل معرفة هذا كله دون معرفة مختصر خليل بمنطوقه ومفهومه ومعرفة المطول بحواشيه وتقريراته، فضلا عن غيرهما من كتب النحو والصرف والبلاغة والكلام والأصول والمنطق وغيرها من العلوم. فإن من الناس من يقرأ مختصر خليل في عشرين سنة وأقل ما يقرؤه فيه من يختصر ولا يكثر الأبحاث والإيرادات والأجوبة ونقل كلام الشروح والحواشي أربعة أعوام. وهو تكفي لمعرفة ما يلزم من علوم الاجتهاد ومواده فضلا عن أكثر منها.

الوجه الخامس إنه يكفي للاجتهاد أن يكون عند طالبه تفسيران أو ثلاثة كابن جرير وابن كثير والفخر الرازي. ومن كتب أحكام القرآن أحكامه لابن العربي والرازي والجصاص، بل هذا يغني عن أحكام ابن العربي. ومن كتب الفقه الأم للإمام الشافعي ومدونة سحنون وشرح التهذيب للنووي والمغني لابن قدامة وفتح القدير لابن الهمام. ومن كتب الخلاف وشروح الحديث المحلى لابن حزم وفتح الباري وشرح النووي على مسلم ونيل الأوطار للشوكاني. ومن كتب الأصول الأحاكم لابن حزم والمستصفى للغزالي وإرشاد الفحول للشوكاني. ومن كتب القواعد الفقهية الفروق للقرافي والأشباه والنظائر لابن نجيم وللحافظ السيوطي. ومن كتب الاصطلاح تدريب الراوي وشرح الألفية للمؤلف وللحافظ السخاوي. ومن كتب الرجال الميزان للذهبي ولسانه وتهذيب التهذيب كلاهما للحافظ. ومن كتب الصحابة الإصابة وأسد الغاية. ومن كتب التخاريج تخريج أحاديث الرافعي للحافظ وتخريج أحاديث الهداية للزيلعي. ومن كتب الحديث الموطأ والصحيحان والسنن الأربعة وسنن الدارقطني وسنن البيهقي ومستدرك الحاكم. ومن المختصرات الجامعة منتقى ابن تيمية وبلوغ المرام مع شرحه سبل السلام. كل هذا مطبوع متداول. وما زاد على هذا فهو على سبيل التوسع وإلا ففيما ذكرناه كفاية.

الوجه السادس أن المطلوب هو العمل بالدليل وعدم الإعراض عنه إذا استبان، لا الاجتهاد بمعنى استنباط الأحكام الدقيقة والنوازل الغريبة النادرة قبل وقوعها كما كان شأن المجتهدين. فإن ذلك لا داعي إليه ولا أمر الله تعالى به، بل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه وكرهه الصحابة والتابعون. بل لا مانع من الأخذ بأقوال أئمة السلف الصالح كالأربعة ومن قبلهم فيما لم يعرف المرء دليله. فإن التمسك بأقوالهم خير من عمله برأية إذا لم يبلغ رتبتهم. وإنما المطلوب العمل بالدليل فيما استبان فيه خطؤهم لا التعصب والعناد وادعاء أن العمل بالقرآن والحديث حرام بل ضلال وإلحاد مع التزام لأخذ بقول واحد من الأئمة دون غيره أخطأ أم أصاب! فبان من هذه الوجوه أنه لا دليل للمقلدة في تقليدهم ولا حجة تنجيهم بين يدي الله تعالى من إعراضهم عن المعل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأن كل ما يموهون به في انقطاع الاجتهاد وتعذره باطل لا أصل من الصحة. انتهى.

قال الحافظ أحمد الغماري في مقدمة كتابه تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطر بالمال :

فمن يعلم أن أفعال المكلفين لا تخلو من أحكام الله ويعلم أن نصوص الشرع الدالة على الأحكام محصورة متناهية والأفعال والحوادث غير محصورة ولا متناهية وما لا ينحصر ولا يتناهي لا يضبطه ما ينحصر وتيناهي، يعلم قطعا أن الاجتهاد واجب الاعتبار وأن الزمان لا يجوز عقلا خلوه من مجتهد قائم لله بالحجة على خلقه. وذلك باستنباط حكم أفعالهم المحدثة ووقائعهم المتجددة حتى يكون لكل حادتة اجتهاد يبين حكم الله فيها بطريق النظر والاستدلال. وإلا لزم تعطيل الأحكام في كثير من الحوادث والأفعال وترك الخلق سدى يعمهون في بحار الهوى والضلال واجتماع الأمة على الخطأ والباطل وذلك محال! ولهذا حكم الأئمة وفقهاء الإسلام من سائر المذاهب بأن الاجتهاد فرض كفائي وأنه يجب أن يكون في كل قطر من تقوم به الكفاية وأن الفرض لا يتأدى بالمجتهد المقيد، بل لا بد من المجتهد المطلق. وحكوا الاتفاق على هذا، بل حكى الإمام الشافعي وغيره الاجماع عليه.

والاجتهاد هو استعمال النظر في النصوص واستفراغ الوسع والطاقة في استخراج الأحكام منها بقياس ما لم يذكر فيها على ما ذكر بعلة جامعة مع مراعاة الأصول والمقاصد. بهذا كانت شريعتنا مستقرة إلى قيام الساعة وعامة لكافة الناس. فكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعث نبينا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافتة وختم به النبييون فلا نبي بعده لأن شريعته صالحة لكل جيل في كل مكان وزمان متكلفة بعبادة الخلق وبمصالحهم الدينية والدنيوية في كل عصر وأوان. فما من حادث يحدث في قطر على اختلاف عوائده وطبيعته ولا في زمان على تبدل أطواره وتغير حالته إلا وفي نصوص الشريعة وأصولها ما يبين حكم الله تعالى في تلك العوائد المختلفة والحوادث المتجددة والوقائع النادرة المتباينة: {مَّا فَرَّطْنَا فِى ٱلْكِتَٰبِ مِن شَىْءٍۢ} [الأنعام : ٢٨]. ولولا ذلك لكانت الأمة مضطرة إلى وضع القوانين وتغييرها بتغير الأزمان وتبدل الأطوار كما هو شأن الأمم الأخرى على اختلاف الملل والنحل والأديان. فما من أمة، بل ولا دولة إلا وتغير قوانينها الشرعية والسياسة وتدخل عليها من الزيادات والتعديلات ما يناسب الظروف والأحوال. كلما تغيرت الحوادث وتبدلت الأطوار، وربما وقع لهم ذلك في السنة الواحدة مرات.

أما الشريعة الإسلامية، فمنذ جاء بها نبيها الأكرم، ورسولها الأشرف الأعظم صلى الله عليه وسلم وهي مستقرة خالدة عامة شاملة لكل الواقائع والحوادث والقضايا والنوازل في كل العصور والأزمان، لا تتغير ولا تتبدل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ} [الحجر : ٩]. فمن رجع إلى كتب الفقه والنوازل الشرعية، يجد أحكام القضايا المحدثة والنوازل المستجدة لا تخرج عن قواعد الشريعة وأصولها مهما كثرت النوازل وتباينت أنواعها وتعددت الوقائع واختلف أجناسها. لا فرق فيها بين ما صدر في القرن الأول والثاني أو السابع والثامن أو الثالث عشر والرابع عشر على اختلاف هذه الأزمان وتباينها وتغير حوادثها وأطوارها. وهذا أيضا من أعظم الحجج وأوضح البراهين على عدم انقطاع الاجتهاد وخلو الزمان من المجتهدين. فإن كتب النوازل والفتاوى على المذاهب الأربعة وغيرها بالغة آلاف المجلدات وجل ما اشتملت عليه صار من غير الأئمة الأربعة، بل عن غير أصحابهم وأصحاب أصحابهم. إنما هو استنباط من جاء بعدهم الفقهاء والمفتين في كل عصر إلى وقتنا هذا الذي هو مع ضغف همم أهله وقلة عنايتهم بالعلم ورغبتهم فيه. فلما يخلو في بلد أو قبيلة من مفت أو مفتين، يستنبطون لكل حادثة حكمها من النصوص الفقهية والقواعد المذهبية أو كما تقدم لها من الأشياء والنظائر التي حكم فيها أمثالهم من المفتين السابقين. فهذا عين الاجتهاد الذي ينكره جهلة العصور المتأخرة ويدعون استحالته وعدم قدرة أهل الزمان عليه مع أنهم مجتهدون حتى في إنكارهم الإجتهاد الذي لم ينكره أئمتهم، بل عدوه من فروض الكفاية والواجبات التي لا يجوز خلو الزمان منها وهم بهذا الاجتهاد لا يشعرون!

ومن أمثلة ذلك الحوادث العامة التي حدثت في هذه الأزمان مما لم يسبق له مثير في عصور الشارع والقرون السابقة حتى المتأخر منه، بل منه لم لم يتحدث إلا في هذا القرن الرابع عشر مما نشأ عن الاختراعات الحديثية والخوارق المدهشة التي كانت من زمن قريب تعد من المستحيل فأصبحت اليوم من المألوفات العادية كالتصور الفوتغرافي والصوت الفونغرافي وحبس القرآن في اسطوانته وقراءة في الراديوم وسماعه عنه وقبول أخبار التلغراف والتليفون بثبوت هلال رمضان والعيد وحصول الميراث بخبر الوفاة منها وركوب الطيارة والغواصة وحكم الصلاة فيهما وطبع الكتب والمصاحف بالمطابع والتعامل بالأوراق المالية والبنكية وضمان السلع المعروفة بالسكورتاه والتداوي بالإبر للصائم وغير ذلك من الحوادث المستجدات التي بين حكمها علماء العصر القائلون بانقطاع الاجتهاد واستحالة وجوده والحاكمون بضلال من يدعيه مع أنهم مجتهدون!

1 comment:

  1. The Casino in El Cajon, CA - Mapyro
    The casino features a large selection of 용인 출장샵 slots from 이천 출장안마 the best providers of 울산광역 출장안마 video slots. The casino's games include blackjack, roulette,  Rating: 문경 출장샵 4.5 삼척 출장안마 · ‎13 reviews

    ReplyDelete