فأول وهلة، عرفنا ما حدث في المذاهب الفقهية والفرق العقدية من أهل السنة. لقد شهدت الأمة على تخاصمات ومساجلات بين الفقهاء والعلماء في تمكين سطواتهم في بلادهم وأهلها، لا سيما إن كانوا عندهم إعانة من السلاطين والملوك. والتعصب المذهبي أمر لن ينافيه أحد وخاصة من يطلع على تاريخه. انظر إلى التعصب المذهبي في التاريخ الإسلامي لخالد كبير علال لابتداء القراءة.
وقد حدث هذا التعصب في زمان الإمام محمد بن إدريس الشافعي. قال الربيع بن سلميان برواية البيهقي في مناقب الشافعي : رأيت أشهب بن عبد العزيز ساجداً وهو يقول في سجوده: للهم أمت الشافعي وإلا ذهب علم مالك بن أنس فبلغ الشافعي ذلك فتبسم وأنشأ يقول. فذكر البيتين وزاد بيتا ثالثاً:
وقد علموا لو ينفع العلمُ عندهم # لئن مِتُّ ما الداعي عليَّ بمُخْلَد
ثم، نظرنا إلى ما شهد علمائنا غير السلفية على خباثة المتعصب وغلاة التقليد. وأنقل كلامهم لإعلام أخي القارئ أن ذمهما لا يحصر من السلفية ، بل من كل من سلك على المنهج الصفي واشتد في اتباع السنة ولازم البرهان القوي والحجة الغالبة والسلطان القاهر وجعل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على رأسه وعينيه ونبذ التقليد وشنع التعصب.
قال الحافظ أحمد بن محمد بن الصديق الغماري الحسني وهو أهل الحديث الصوفي من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث بأبيه في التصور والتصديق بأخبار الشيخ سيدي محمد ابن الصديق : ووقعت له مناظرة بالمدينة المنورة مع حمدان الونيسي الجزائري في محفل عظيم من العلماء. فيهم شيخنا الإمام سيدي محمد ابن جعفر الكتاني والشيخ توفيق الأيوبي الشامي والشيخ أمين سويد الدمشقي أيضا والسيخ عمر حمدان المحرمي والسيد أبو القاسم الدباغ وما يقرب من عشرين عالما كانوا مجتمعين بضريح سيدنا حمزة رضي الله عنه. وبعضهم يسرد تفسير ابن عجيبة، فمرت مسألة البحر البحث فيها بينهم إلى مخالفة المذهب. فتكلم الونيسي بكلام أراد به التنكيت على سيدي أبي القاسم الدباغ لأنه كان من المعلنين بنبذ التقليد والعمل بالسنة وظن الونيسي أنه منفرد بذلك من بين الحاضرين. فانبرى له الشيخ رضي الله عنه وناظر مناظرة بهرت عقول الحاضرين ومكثوا يتحدثون بها طول عمرهم. كلما جرى ذكر الشيخ رضي الله عنه حتى ذكر كل من السيد أبي القاسم الدباغ والشيخ عمر حمدان على الانفراد في أوقات مختلفة قالوا: "ما كنا بمثل الونيسي أمام الشيح إلا كهر صغير بين يدي أسد عظيم". فلما ألزمه الحجة، ولم يجد من يد الشيخ مفرا قال في حمية وغضب للتقليد والشيطان: "ما قاله الله ورسوله أضعه تحت قدمي. وما قاله خليل أجعله فوق رأسي". فقال له الشيخ: "الآن سقط الكلام معك ولو أخبرتنا بهذا من أول وهلة، ما ناظرناك لأننا كنا نظن أنك تناظر عن جهل بالمسألة وخطأ في النظر والاعتقاد وحيث وصلت إلى حد الكفر والردة والعناد، فلا كلام لنا مع من هذا حاله".
وأورد أحد كبار تلاميذه، عبد الله بن عبد القادر التليدي قوله في در الغمام الرقيق برسائل الشيخ السيد أحمد ابن الصديق : وقد أفتينا مرة في مسألة واستدللنا لها بالحديث. فأخذ السائل تلك الفتوى إلى الفرطاخ، وكان من علماء تطوان. فلما قرأها غضب واحتد وقطعها. ثم رمى بها وقال للرجل: "إذا جئتني مرة أخرى بفتوى فيها حديث، بعثتك إلى السجن". وناظرت مرة رجلا من تطوان، فصار يصيح ويقول: "يا عباد الله! أيأمرنا هذا الرجل بالكفر؟ أيأمرنا أن نترك خليلا ونعمل بالحديث؟".
وأورد أيضا أحد كبار تلاميذه، الشيخ محمود سعيد ممدوح كلامه في مسامرة الصديق ببعض أحوال أحمد ابن الصديق : والقسم الثالث من المقلدة وهم ءفي نظر المرتجم لهء العلماء الجامدون على المذاهب تقليدا لا تنقيدا واتباعا ويزيدون على ذلك عداوتهم لمن يعلن طلب الدليل والبحث عنه والدعوة لاتباعه كما جاء عن يوسف النبهاني أنه يتقذر من رؤية الداعين إلى العمل بالدليل كما يقذر من رؤية النجاسة! وكما قال جعفر الكتاني في الرد على عبد الله السنوسي: "وبعد، فقد نبغت نابغة من المجوس رأسهم ابن حزم يقولون: "لا يجوز العمل إلا بكتاب الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم"! فسماهم مجوسا وجعل علة تمجسهم قولهم: "لا يجوز العمل إلا بكتاب الله والحديث"! ثم قال في آخر كتابه الخرافي: "الفصل العاشر في تحريم العمل بكتاب الله وحديث رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم... إلى آخر"! هكذا يصرح بتحريم بكل جرأة ووقاحة! وسمى الخضر الشنقيطي كتابه في نصرة التقليد: "قمع أهل الزيغ والإلحاد عن الطعن في أئمة الاجتهاد". فسماهم ملاحدة وجعل قولهم: "لا يجوز تقليد الأئمة" طعنا فيهم! وقال القادري في رسالته في العمل بالضعيف من أقوال المذهب: "فإن قلت هل يجوز العمل بالحديث؟ فالجواب: لا"!. ولو أملينا عليك ما سمعناه منهم ووقع لنا معهم، لسمعت العجب العجاب.
وأرد التليدي قوله في نفس الكتاب : وكتاب التونسي الذي تسأل عنه طبع منذ ثلاثين سنة تقريبا. ومؤلفه هو المجرم الأحمق عدو الله روسوله صلى الله عليه وسلم حقا؛ يوسف الكافي الذي يعتقد يقينا لا شك فيه عنده كفر من يعمل بالسنة واستحلال دمه وريرى وجوب عبادة مالك وعدم الخروج. فهو من المغاربة الحمقى الخبثاء جدا جدا جدا.
وأورد أحد كبار تلاميذه، الشيخ محمد بن الأمين بوخبرة قوله في رسائله معه التي جمعها أبو الفضل بدر العمراني : محمد بن الأمين بوخبرة أما مسألة الباجي والريفي وأمرهما بقتل من خالف المذهب في الطلاق الثلاث، فلا غرابة في ذلك لمن عرف شر البدعة وتغلغلها في النفوس. فإن المبتدع يعتقد بدعته دينا وينافخ عنها منافخة المؤمن عن الحق وشر البدع وأخبثها بدعة التقليد. فإن كثيرا من البدع لا يبلغ درجة الشرك وعبادة المخلوق مع الله تعالى ولو وحدوه لكان في الأمر خفة. ولكنهم يرون أن كلام أربابهم ورأيهم مقدم على كلام الله ورسوله وأفضل منه وأولى الحق، بل أوجب بالقبول والامتثال. قبحهم الله. وقد سعى الباجي وأصحابه في قتل ابن حزم وهلاكه. ولما لم تصل يدهم إلى ذلك، حرقوا كتبه ونفوه وطردوه. وقد تحاربوا وتقاتلوا ومات منهم المائات أو العشرات في حرب أبي نصر ابن القشيري مع الحنابلة لأجل تقليد الأشعري. وفقهائكم أهل تطوان برئاسة الزواق أردوا الفتك بنا امتثالا لقول ابن عاصم أو غيره: "ومن جفا القاضي فالتأديب" حيث كتبنا لابن عبدون إلى الشاون وقلنا في حق العلمي: "إنه أجهل من حمار وأضل من بعير". ولولا أن الله دافع عنا وحمانا بالأعداء حيث حاز الحكم الجنرال وركاص وقال لهم: "اذهبوا فسأنظر"، لكان ما كان مما لست أذكره فظن شرا ولا تسأل عن الكدر. وكنت كتبت لهم على يد قاضي طنجة رسالة مطولة في تجهيلهم وتجهيل من قال: "ومن جفا القاضي فالتأديب". وذكرت لهم أنه وجد من جفا سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ثم أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي في خلافتهم، فا أدب واحد منهم الجافي.
وقال الشيخ محمد الزمزمي بن محمد بن الصديق الحسني وهو صوفي من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخ ثالث لأحمد الغماري في الزاوية وما فيها من البدع والأعمال المنكرة : حكى بعض الإخوان أنه أنكر على أحد المتصوفة الجاهلين مخالفة السنة في عمل عمله. فقال له: "شيخي كان يعمل هذا العمل. ولو دخل شيخي النار لدخلتها معه!".
وقال ظافر جمال الدين القاسمي في جمال الدين القاسم وعصره يتحدث بأبيه حين جُرَّ إلى المحكمة لأنه عقد الجماعة التي تتباحث العلماء في العلوم فيها من دون تقيد مذهب من المذاهب : وأما المحاكمة الجديدة، فقد بدأت باستجواب القاسمي وسؤاله عن التهمة الموجهة إليه. وهي: "إنكم تجتمعون على تفسير القرآن الكريم والحديث برأيكم وتردون الأئمة المجتهدين؟ هل قلتم بطهارة الخمر؟ هل وضعت الحاشية على كتاب الشعراني كشف الغمة؟ هل قلت لرجل استفتاك: خذها على مذهبي، الجمالي؟". وبعد أن أجاب على النحو الذي ستراه فيما دونه القاسمي نفسه، قال له المفتي: "ما لكم ولقراءة الحديث؟ يلزم قراءة الكتب الفقهية والحجر على قراءة الكتب الحديثية والتفسيرية!".
إذا نظرنا إلى هذه الشهادة، كيف يكون شأن التعصب وغلو التقليد ضئيلا؟ ولا يظن ذلك إلا من في حقيقته يستقر فيه قليلا أو قريبا منه، فلذلك لا يهتم بهذا الإثم ولا يرغب في الجهود على نبذه ومجاهدته.
ألا يعلم كيف شره إذا رسخ في مجتمعنا توسعا في بلادنا؟ هل يعلم لماذا الإمام التقي السبكي وقف في الشافعي وهو قد أجمع الأئمة المعاصرة معه على أنه بلغ في رتبة المجتهد؟ قال أبو زرعة العراقي في الغيث الهامع شرح جمع الجوامع : وقُلْتُ مَرَّةً لِشَيْخِنَا الإِمَامُ البَلْقِينِيُّ رَحِمُهُ اللَّهُ تعَالَى: مَا يَقْصُرُ بِالشَّيْخِ تَقِيِّ الدّينِ السُّبْكِيِّ عَنِ الاجْتِهَاد وَقَدْ اسْتَكْمَلَ آلاَتِهِ؟ وكَيْفَ يُقَلِّدُ؟ ولَمْ أَذْكُرَهُ هو استحيَاءً مِنْهُ لِمَا أُرِيدُ أَنْ أُرَتِّبَ علَى ذَلِكَ، فَسَكَتَ عَنْهُ. فَقُلْتُ: مَا عندي أَنَّ الامتنَاعَ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ لِلوظَائفِ التي قَرَّرَتْ لِلفقهَاءِ علَى المَذَاهِبِ الأَربعةِ، وأَنَّ مَنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ وَاجْتَهَدَ لَمْ يَنَلْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وحُرِمَ وِلاَيةُ القضَاءِ، وَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ استفتَائِه ونُسِبَ لِلبِدْعَةِ. فَتَبَسَّمَ ووَافَقَنِي علَى ذلكَ.
هذه جريمة عظيمة على المجتمع بأنهم يمنعون من استكمل آلات الاجتهاد وقدر عليه من تأدية حقه وإجراء ما منحه الله في ما يأمر ويستحبه الله. فهم مسؤولون إلى الله وخصوصا وظائف وأولياء الذين بأيديهم سلطان وهم يتولونه في هذه الجريمة على العلماء المسلمين!
ثم، انظرإلى ما أصابه الحافظ السيوطي من هذه الجريمة. قال في تقرير الاستناد في تفسير الاجتهاد : شنع مشنع على دَعْوَى الِاجْتِهَاد بِأَنِّي أُرِيد أَن أعمل مذهبا خَامِسًا وَرُبمَا زادوا أَكثر من ذَلِك وَمثل هَذَا التشنيع إِنَّمَا يمشي على عقول الْعَوام وَمن جرى مجراهم. انتهى.
ومن الحافظ السيوطي؟ قال في حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة : وقد كملت عندي الآن آلات الاجتهاد بحمد الله تعالى؛ أقول ذلك تحدثًا بنعمة الله تعالى لا فخرًا؛ وأي شيء في الدنيا حتى يطلب تحصيلها بالفخر، وقد أزف الرحيل، وبدا الشيب، وذهب أطيب العمر! ولو شئت أن أكتب في كل مسألة مصنفًا بأقوالها وأدلتها النقلية والقياسية، ومداركها ونقوضها وأجوبتها، والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها لقدرت على ذلك من فضل الله، لا بحولي ولا بقوتي، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ما شاء الله، لا قوة إلا بالله.
وقد حاز الحافظ من أعلى الدرجات في رتبة العلماء ومؤلفاته التي وصلت إلينا بينة على علمه وإتقانه ورسوخه وعظمته. ولكن الناس من خلال حياته لم يلفت أنظارهم إلى مكانته الكريمة في العلم وأصروا على الخصومة عليه لأنه ادعى إلى الاجتهاد وحاسبوا أنه أراد إقامة المذهب الخامسة وهو يحرص على اتباع الدليل والتزام الحق من دون تقيد رأي من الآراء ومذهب من المذاهب. قال الحافظ أحمد الغماري كما أورد قوله عبد الله بن عبد القدير التليدي في در الغمام الرقيق : "وانظر الحافظ السيوطى لما ادعى الاجتهاد. كيف نبذه أهل عصره وحاربوه وبقي منعزلا في بيته. وهكذا شأن كل من ادعى الاجتهاد".
لو كان أولئك أحياء في هذا الزمان ليكونون خجلى من أن يعرفوا ما ترك الحافظ السيوطي تصانيفه التي صارت شهادة على منزلته العلمية بلا نزاع إلا من عمي بصره وغمر صدره في الحسد.
ويكفي بجميع هذا مؤثر تنبهنا إلى إثم التعصب وغلو التقليد في المسلمين والمهمة على نبذها والتنبيه للناس عامة. إن كان هذا لم يبعث رجلا على التنبه فلا أدري ما تقرر في صدره ويجب عليه أن يحاسب نفسه أين التزام بكتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع الدليل الواضح والحجة المتينة في عينيه؟
وآخر الكلام، أنقل الكلام النفيس عن الشيخ محمود سعيد ممدوح في بيان لماذا تكره المقلدةُ المجتهد لكي نَعِيَ جهة ذم المتعصب وغلو التقليد : هناك نوع فريد من العلماء لاينبغي أن تخلو الأمة من أمثاله. هم المجتهدون أو قل المتبعون الذين يدورون مع الدليل وهم من استكملوا الآلات المؤهلة للفهم الصحيح للنصوص ومشوا مع النص وداروا معه. هذا الصنف من العلماء حاله صعب جدا مع المقلد فإنه لا يثبت على حالة فمرة تراه موافقا لمذهب من مذاهب العترة وأخرى يوافق الشافعي ويخالف الجمهور ومرة يمشي مع المالكية والشافعية ومرة يخالف الأربعة ويرجح رأي ابن حزم ومرة يخالف الجمهور ويمشي مع العترة المطهرة. كل هذا بحسب نظره واجتهاده وقوة بحثه وهو مأجور أصاب أم أخطأ. وغالبا ما يتهمه المقلدة بالشذوذ الذين غايتهم قال فلان وقال فلان والمشهور كذا والمتن كذا فهذا ليس بعلم. وهذا الصنف من العلماء لا يحبه المقلدة ويشنعون عليه. لماذا؟ لأنه معهم مرة ورد عليهم مرات وترقى لمخالفة أصل من أصول مذهب معين كعمل أهل المدينة أو شنع على مذهب لأنهم لا يخصصون عام القرآن بالسنة الصحيحة أو كتب في معارضة من يقدمون القياس على السنة أو اختار حجية اجماع العترة أو رد حديث الناصبي وهكذا. فلما كان هذا العالم يكاد ألا يوافق أحدا وغالبا ترى المقلدة يعارضونه لأنه تناول مذهبهم أو إمامهم بالمخالفة وربما ناقشه وخالفه لأن المقلد غالبا ما يعتبر كلام إمامه كالحجة الشرعية. ولهذا كثر تشنيع العلماء المقلدة على ابن حزم وردوا عليه ولما تعرض الامام النووي لاختيارات فقهية له رجحها ونص عليها في المنهاج ، لم يعتبرها فقهاء الشافعية المتأخرين من المذهب. [ارجع إلى : https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=242554779492136&id=100012128473491].
No comments:
Post a Comment